ولا ينتصِر إلا الحب

 


ربيت كاليتيمة، مع أنّ والدَيّ لَم يموتا بل ترَكاني الواحد تلوَ الآخَر لِعَيش حياتهما كما يحلو لهما. ترَكاني عند جدّتي وخالتي ويا لَيتني رحتُ دارًا للأيتام لَذِقتُ طعم الهناء. لكنّ الظروف شاءَت أن أقضيَ سنوات طويلة مع عجوز نصف خرِفة وخالة مُتزمِّتة ومُتنمِّرة. كنتُ في السابعة مِن عمري، أيّ فتاةً مليئة بالحيويّة والآمال بالرغم مِن هَجر أبوَيّ لي، فكنتُ سأرتاحُ أخيرًا مِن الشجار والصراخ اللذَين كانا يدوران بينهما ليلاً نهارًا. أعجبَتني فكرة العَيش في ذلك البيت القديم المُحاط بحديقة صغيرة تصوّرتُ نفسي ألعبُ فيها برفقة صديقاتي وزميلاتي في المدرسة. لكن ما كان ينتظرُني كان مُخالفًا تمامًا لتصوّراتي البريئة.

كانت رهَف، خالتي، لا تزال عزباء بالرغم مِن بلوغها سنّ الأربعين، وتكرهُ صنف الرجال برمّته مُبرّرة ذلك الحقد بأنّهم لا يُفكّرون سوى بشيء واحد، أيّ الرذيلة. وذلك الأمر بحدّ ذاته كان مرفوضًا لدَيها، وصبَّت كلّ اهتمامها على دراسة الدين وتطبيقه... بِحَزم. وحين قدِمتُ إليها، رأت فيّ تلميذة مثاليّة تُشغِلُ وقتها بي وتعلّمني كلّ ما تعرفه.



صارَت حياتي بمثابة حياة سجينة، إذ كان ممنوعًا عليّ الذهاب إلى أيّ مكان أو استقبال أيّ أحَد، وكانت المدرسة نافذتي الوحيدة إلى العالَم. إضافة إلى ذلك، غيّرَت خالتي طريقة ارتدائي الملابس، فلَم يعُد يظهرُ منّي إلا جزء مِن وجهي. وحتّى يدايَ كانتا مُغطتان بقفازَين صيفًا شتاءً. سخِرَ منّي رفاقي، الأمر الذي أحرجَني إلى أقصى درجة وولّدَ في قلبي كرهًا للمدرسة والدرس. وحين أخبرتُ رهَف ماذا يحصلُ لي، هي قالَت ممتنّة:
- حسنًا، لن تذهبي إلى ذلك المكان المليء بالإثم والرذيلة، سأُدرّسُكِ كلّ ما تحتاجين معرفته بنفسي.
قد يخالُ المرء أنّها علّمَتني اللغات والرياضيّات والتاريخ، إلا أنّها رمَت كتبي، وإضافة إلى الدروس في الدين، هي درّبَتني على الأعمال المنزليّة والطهو والأشغال اليدويّة، وبقيَت تُردِّد: "هذا كلّ ما عليكِ معرفته لتستحقّي العَيش هنا".
ماذا؟!؟ هل هي كانت تنوي تحويلي إلى عاملة تنظيف لدَيها؟
أمّا بالنسبة لجدّتي، فهي كانت حاضرة غائبة، بسبب كبر سنّها الذي أثَّرَ على قدرتها على التركيز والتحليل. كلّ ما كان يهمُّها هو أن تحصل على حاجاتها الشخصيّة، تاركةً زمام الأمور لِرهَف التي كانت بالفعل ربّة البيت. هل أحبَّتني العجوز؟ لستُ أدري، ففي معظم الأحيان هي كانت تنظرُ إليّ وكأنّني غريبة عنها، وحصَلَ مرارًا أن سألَتني مَن أكون.
ووسط هذا المناخ غير السليم، لَم تسأل أمّي عنّي ولا أبي، بل تابَع كلّ منهما حياته وكأنّني لَم أولَد قط. عائلة عظيمة بالفعل!
تابعَت خالتي "تدريبي" إلى حين صرتُ مُطيعة لها، وبعد أن استعملَت معي العقاب اللفظيّ والجسديّ. هي كانت تحمِلُ معها بصورة دائمة قضيب خيرزان طويلاً وقويًّا لتستعمله عليّ كلّما رأت أنّني "أنحرِفُ" عن المسار. بكيتُ بسبب التوبيخ والألَم، لكن ما مِن أحد كفكَفَ دموعي.
مرَّت سنتان ثمّ توفّيَت جدّتي خلال نومها، لكنّ والدتي لَم تتكبّد عناء حضور دفنها، ربّما كَي لا أراها وأُصّرُّ على الرحيل معها. وهكذا بقيتُ لوحدي مع "المُستبِدّة" كما أسمَيتُها، وهي استفحلَت في تربيتها لي.
ثمّ حدَثَ ما لَم أكن أحسب حسابه: جاءَت إلى المبنى المُقابِل عائلة مؤلّفة مِن أب وأمّ وصبيّ وفتاة. لَم أعرِف بالأمر إلا عندما رأيتُهم يتنقّلون مِن غرفة إلى أخرى أمامي، ورأيتُ الشبابيك مُضاءة. ورأيتُ أيضًا سامِر، صبيّ في الثالثة عشرة مِن عمره. كان يكبرُني بحوالي الثلاث سنوات إلا أنّه رأى فيّ شيئًا مُميّزًا بالرغم مِن لباسي الغريب. هو لَم يسخَر منّي كباقي أولاد سنّه حين رآني مِن شبّاكه، بل أومأ لي بِيَده وابتسَم قَبل أن يغيبَ عن نظري. كان سيُصبحُ سامِر الانسان الوحيد الذي أبدى لي نوعًا مِن الاهتمام والمحبّة... وأكثر.
أعربَت رهَف عن انزعاجها مِن هؤلاء الجيران الجدُد، خاصّة أنّ الأمّ والابنة كانتا ترتديان ملابس عاديّة، فوصفتهُما بالـ "فاسِقتَين" وبكلمات مُجرِّحة أخجَل مِن البوح بها. علِمتُ على الفور أنّه سيكون ممنوعًا عليّ مُخالطة جيراني، إلا أنّني أخفَيتُ عنها تعارفي عن بُعد على سامِر.
وصِرتُ أتصبَّح بسامِر وأتمسّى به وكان ذلك يكفيني، فمتطلبّاتي في ذلك السنّ وتلك الظروف كانت بسيطة، إذ كان ذلك كافيًا لأشعُرَ أنّني لَم أعُد وحيدة، تمامًا كالسجين الذي يستأنّس بالحمامة التي تحطُّ على قضبان حبسه المُظلِم.
مرَّت السنوات وصِرتُ مُراهقة لا أفُق لها... فعندما اختفى سامِر فجأة عادَت الظلمة إلى قلبي. لَم أعرِف ما حلّ به إلى حين التقَيتُ بأخته صدفة في الدكّان الموجود في الحَي، عندما مرضَت خالتي وبعثَتني لِجلب حاجيات البيت. فحتّى ذلك الحين كان لا يزال الخروج ممنوعًا عليّ. إقتربَت أخت سامِر منّي وهمسَت في أذني: "هذه الرسالة هي مِن أخي... إقرَئيها وأعطِني الجواب غدًا في الساعة نفسها هنا في الدكّان".
ركضتُ إلى البيت كالمجنونة، وبعد أن وضعتُ الحاجيات في الخزائن والثلاجة وخدمتُ المريضة وتأكّدتُ مِن أنّها نائمة، قصدتُ غرفتي وقرأتُ الرسالة وقلبي يدقُّ كالمجنون: "أنا لَم أترككِ بل ذهبتُ إلى الجامعة وأسكنُ عند عمّتي في المدينة المُجاوِرة. سأعودُ لبضع أيّام خلال الفرصة الشتويّة. هل تشعرين حيالي بما أشعرُ به حيالكِ؟ جوابكِ مهمّ بالنسبة لي. أنتظر ردّكِ، سامِر". سامِر... هذا إسمه إذًا! بكيتُ مِن كثرة فرَحي، فكان مِن الواضح أنّ ذلك الشاب يُحبُّني. لكن لماذا؟!؟ ماذا رأى بي أو منّي؟ فلَم نتبادَل كلمة واحدة وهو لَم يرَ كامل وجهي أو جسدي، بل فقط عَينَيّ وأحيانًا بسمتي وبصورة خاطفة!

كتبتُ بضع كلمات على ورقة صغيرة، وانتظرتُ بفارغ الصبر أن يحينَ الموعد للذهاب إلى الدكّان. مرَّت الساعات ببطء شديد حتى حسِبتُ أنّ الوقت قد توقّفَ. إلا أنّ الزمَن لا يتوقَّف أبدًا، واقتربَت ساعة الموعد فرُحتُ إلى غرفة خالتي وقلتُ لها إنّني نسيتُ أن أجلِب غرَضًا في اليوم السابق. هي وبخّتني ونعتَتني بالبلهاء ثمّ صرخَت بي:

 

- إذهبي وعودي بعد أقلّ مِن خمس دقائق، وإلا!

 

ركضتُ إلى الدكّان لأعطيَ أخت سامِر جوابي: "أنا بانتظارَك وأشاطرُكَ المشاعر نفسها. ليلى". عدتُ وبسمة عريضة على وجهي، لأنّني شعرتُ لأوّل مرّة بسعادة لَم أعرِفها مِن قَبل وقوّة لا مثيل لها. تحوّلتُ إلى صبيّة أخرى، فليس هناك مِن شعور أقوى مِن الحبّ!

تحسّنَت حالة رهَف ولَم أعُد قادرة على الخروج، بل اكتفَيتُ بتبادل السلام مع أخت سامِر مِن شبّاكَينا وكان ذلك كافيًا بالنسبة لي.

إنتظرتُ بفارغ الصبر قدوم فصل الشتاء، مع أنّني كنتُ أكرَه البرد والمطَر، وصِرتُ أعدُّ الأسابيع والأيّام. سامِر قادِم وتلك الفكرة كانت كافية لتحمّل جنون خالتي وتزمّتها.

إلا أنّ رهَف رأتني يومًا وأنا أبتسمُ لأخت سامِر، فجرَّتني مِن ذراعي خارج الغرفة ثمّ نقلَت أمتعتي إلى غرفة الطعام وصرخَت بي:

 

- أيّتها الفاسقة! أيّتها اللعينة! ستمكثين هنا مِن الآن وصاعدًا وإن رأيتُكَ على أيّ مِن الشبابيك بعد اليوم سأقتُلكِ مِن دون تردّد!

 

بكيتُ كثيرًا لأنّني لَم أعُد قادرة على رؤية أيّ أحَد مِن جانِب حبيبي، فغرفة الطعام لا شبابيك لها على الاطلاق. أقفلَت خالتي غرفتي بالمفتاح ووضعَته في سلسلة حول رقبتها، وانتهى أمري.

جاءَ موعد الفرصة الشتوية وكانت حالتي يُرثى لها. ليس فقط بسبب سامِر لكن أيضًا لأنّ خالتي أطلعَتني بأنّها وجَدت لي عريسًا. ماذا؟ أين ذهبَ كرهها للرجال ودروسها لي بأنّ لا منفعة منهم على الاطلاق؟ كان مِن الواضح أنّها تريدُ التخلّص منّي وبسرعة.

يا إلهي، لا تترُكني! فلَم يعُد لي سواكَ بعد أن تركَني الجميع!

 جاءَ العريس لزيارتنا مع أمّه، وحجَرتُ نفسي في المطبخ إلا أنّ خالتي رهَف لحِقَت بي وبِيَدها قضيب الخيزران مُهدِّدة به. لَم آبَه لِما كانت تعِدُني بِفعله لي بل صرَختُ فيها:

 

ـ كنتُ أظنّ أنّكِ تكرهين الرجال والزواج... أليس ذلك ما علّمتِني إيّاه منذ صغري؟ كيف لكِ أن تزوّجيني؟!؟

 

ـ رأيتُ فيكِ بذور الشرّ... أجل، أنتِ تمامًا كأمّكِ، فاسقة! لَم أعُد أُريدُكِ!

 

ـ ما الذي فعلتُه؟ هل لأنّني سلَّمتُ على إبنة جيراننا؟ هل هذا كافٍ لتحكُمي عليّ بالفسق؟ أنتِ حقًّا مجنونة! لن أتزوّج حتّى لو عنى ذلك قتل نفسي!

 

ـ أنتِ جبانة كأبيكِ، لن تجرُئي على الانتحار. إن لَم تُرافقيني إلى الصالون، سأرميكِ على الرصيف عارية تمامًا! وتعرفين أنّني قادرة على فعل ذلك! هيّا!

 

دخَلتُ ورهَف الصالون ورأيتُ الذي كانوا يريدون تزويجي ايّاه. يا إلهي! ما هذا الكمّ مِن القباحة وثقل الدَّم! إضافة إلى ذلك، كان المدعوّ إيهاب أكبَر منّي بعشرين سنة على الأقلّ! أين أنتَ يا سامِر؟!؟

وصَلَ سامِر منزل أهله بعد يومَين مِن تلك الزيارة، ولَم يستطِع أو أخته التواصل معي على الاطلاق. لِذا هو قرَّرَ قرع بابنا والتكلّم مع خالتي بشأن زواجنا بعد أن يتخرّج. إلا أنّ "المُستبِدّة" أقفلَت الباب في وجهه حالما انتهى مِن الكلام. لَمَحتُ وجهه قليلاً لكنّه لَم يرَني للأسف. عادَ المسكين مكسورًا وعلِمتُ أنّني لن أراه بعد ذلك. عندها قبِلتُ أن أتزوّج، فقد يكون إيهاب أفضَل معي مِن خالتي.

علِمَ سامِر وأهله بأمر زواجي مِن نساء الحَيّ، لكنّني لَم أرَهم في فرَحي، فمِن المُستحيل أن تدعوهم رهَف! أخذَني عريسي الغليظ إلى الفندق وفعَلَ ما فعلَه بي، ثمّ غرِقَ في النوم بينما كنتُ أبكي مِن كثرة خَيبتي. كانت حياتي قد أخذَت مُنعطفًا جديدًا ولَم أكن أعرفُ على الاطلاق كيف ستكون. أجبَرتُ نفسي على نسيان سامِر، فما نَفع التفكير فيه؟ فهو سينساني حتمًا بعد أن فقَدَ الأمل بِعَيش حبّه معي. يا للخسارة! لَم يحضُر فرَحي أيّ مِن والدَيّ، مع أنّ خالتي أوصلَت الخبَر لهما، ولَم يؤثِّر بي غيابهما بعد أن اعتبَرتُهما مَيّتَين منذ سنوات لا تُحصى.

عندما عدتُ وزوجي إلى بيته، كانت أمّه بانتظاري وأخذَتني على الفور إلى المطبخ لأبدأ "حياتي الزوجيّة" وأطهو لرجُل البيت أو بالأحرى أعلِفُه. إكتشفتُ أنّ حماتي ستعيشُ معنا، فلَم يذكُر أحَدٌ تلك النقطة أمامي. يا إلهي... هل كان عليّ تحمّل طغيان امرأة أخرى كرهَف؟ لكنّ أمّ إيهاب لَم تكن لعينة كخالتي، فقط إمراه كسائر الحموات، تمقتُ كنّتها وتعتبرُ ابنها أفضل رجُل على الاطلاق.

على مرّ الوقت، إستطعتُ إيجاد توازن مقبول في حياتي، بين حماتي وزوجي والبيت والحزن الذي رافقَني منذ صغري، وبدأتُ أعتادُ على الواقع الذي أنا فيه. بقيَ عليّ إعطاء وريث لرجُلي، لأكون قد أصبحتُ الزوجة التي يتمنّاها مَن هم مثل إيهاب وأمّه. لكنّ الله لَم يشأ أن يُعذّبَني أكثر مِن اللازم لذا لَم أُنجِب، الأمر الذي أغضَبَ زوجي وحماتي، لكنّهما لَم يقسوا عليّ كثيرًا فقد تقعُ مُعجزة يومًا وأحمَل. على كلّ الأحوال، إن أنجَبتُ أم لا، فحياتي كانت بائسة على كلّ الأحوال، إذ كيف لي أن أُربّي طفلاً حين أكون في حالة إحباط دائمة؟

 

لَم تزُرني خالتي على الاطلاق مع أنّها كانت تُقابِل حماتي مِن وقت لآخَر في أماكن عديدة. أنا مُتأكّدة مِن أن رهَف كانت توصي أمّ إيهاب بترهيبي وتخويفي وربّما مُعاقبتي إن أعصَيتُ أوامرها، إلا أنّ هذه الأخيرة لَم تكن قاسية معي، بل فقط لا تُحبُّني. أمّا بالنسبة لزوجي، فهو كان بلا عاطفة، لا يهمّه سوى الأكل والجنس. كان كريمًا معي، فبعد أن خلَعتُ الملابس الشنيعة التي لفَّت جسدي منذ وصولي بيت رهَف، هو اشترى لي كلّ ما طلبَته نفسي، وصرتُ قادرة على الاختلاط بالناس والذهاب إلى حيث أشاء. تقدُّم نوعيّ غيَّرَ حياتي بطريقة إيجابيّة وخفَّفَ عنّي وطأة العَيش مع رجُل لا أحبُّه.

بعد مرور سنتَين على زواجي، خطَرَ ببالي أن أُجريَ فحوصات خصوبة ورحتُ سرًّا إلى المُعاينة. واتضَحَ أنّ زوجي هو العاقِر على الأرجح ، ولَم أتردّد عن اطلاعِه على الأمر بعد أن سمِعتُ التلميحات البشِعة منه ومِن أمّه حول عدَم تمكّني مِن جَلب مولود إلى الدنيا، وكان قد حانَ وقت الانتقام! فبعد أن علِمَ إيهاب وحماتي مَن لا يُنجِب، تغيّرَت المُعطيات تمامًا، فخافا أن يُفضَحَ الأمر وأن يعتبِرَ الناس إيهاب ناقص الرجولة. إستفَدتُ كثيرًا مِن الوضع وصِرتُ الآمِرة الناهية في البيت. عندها أعرَبتُ لزوجي عن رغبتي في العمَل، هو لَم يُمانِع مع أنّ والدته لَم ترَ الأمر بعَين إيجابيّة.

وجدتُ عمَلاً في مصنع يبعُدُ بضع كيلومترات عن المنزل، ولأوّل مرّة صارَ لي أصدقاء وتخالطَتُ مع الناس، فتغيّرَت نفسيّتي إلى الأفضَل. علِمتُ أيضًا أنّني حسنة الملامِح، فحتّى ذلك الحين كنتُ أعتقدُ فعلاً أنّني قبيحة. أليس ذلك ما ردّدَته لي خالتي طوال مدّة عَيشي معها؟ بتُّ إنسانة جديدة مِن الداخل والخارج ورأيتُ الحياة مِن نظرة مُختلفة. كَم مِن الوقت ضاعَ منّي! لكن ما تبقّى مِن حياتي كان بانتظاري، ووحدي كنتُ قادرة على التحكّم بها، أجل، أنا وحدي!

عندها خطَرَ ببالي سامِر وحبّه غير المشروط لي، فهو الوحيد الذي رأى الإنسانة فيّ، وقرَّرَ ربط مصيره بي مِن دون أن يتبادَل معي الكلام. أين هو الآن؟ هل هو تزوّجَ ولدَيه عائلة؟ كان الجواب سهل الحصول عليه، لِذا رحتُ يومًا إلى حيّنا القديم، ودقَّيتُ باب جيراننا وقلبي يخفقُ بقوّة. فتحَت لي أخت سامِر لكنّها لَم تتعرّف عليّ، فلا تنسوا أنّ خالتي كانت تجبرُني على إخفاء ملامحي كلّها. عرّفتُها عن نفسي فعانقَتني بقوّة وأدخلَتني إلى البيت. جلتُ بنظري يمينًا ويسارًا، على أمَل أن يظهَر سامِر أمامي إن كان موجودًا طبعًا، وعلِمَت الصبيّة عمَّن أفتِّش. هي لَم تقُل شيئًا بل راحَت تُنادي والدَيها اللذَين استقبلاني بحرارة. فهما كانا يعرفان عن مشاعر ابنهما تجاهي آنذاك وكيف أنّ رهَف أرغمَتني على الزواج مِن غيره، إلا أنّهما بقيا يعتبراني عروس ابنهما. لَم أسأل عن خالتي بالرغم مِن أنّني كنتُ أجهَل أخبارها، بل سكتُّ لِثوانٍ طويلة قَبل أن أسأل الأمّ:

 

ـ ما أخبار سامِر؟ أرجو أن يكون سعيدًا حيث هو.

 

ـ سامِر؟ إنّه هنا.

 

ـ هنا في البلَد؟

 

ـ في البيت، في غرفته.

 

إمتلأت عينايَ بالدموع، فحبيبي السابق لَم يخرُج ليراني بل بقيَ في غرفته. يا إلهي... لقد وضعتُ نفسي في موقف حرِج بالمجيء إلى ذلك البيت آملةً أن أستعيدَ الوقت الضائع! فكان مِن الواضح أنّ سامِر نسيَني ولَم يعُد يُحبُّني. تابَعتُ وصوتي يرتجِف:

 

ـ آه... فهمتُ الموضوع. على كلّ الأحوال لقد مضَت سنوات على... ولستُ غاضبة منه إن هو لا يُريدُ رؤيتي.

 

ـ هو يُريدُ رؤيتكِ وبشدّة، لكنّه... لا يُريدُكِ أن ترَينَه.

 

عندها خرَجَ سامِر مِن غرفته.... على كرسيّ مُتحرِّك! ركضتُ إليه والدموع تنهال على خدّيَّ لِكثرة فرَحي وحزني في آنٍ واحِد. قبّلتُه على رأسه وركعتُ إلى جانبِه وفي عَينَيّ مئة سؤال. هو أدارَ وجهه وقالَ:

 

- لقد وقعتُ ضحيّة حادث سَير وأنا مُقعَد لِمدى الحياة. لا أُريدُ شفقتكِ يا ليلى، ولا يجِب أن تعودي إلى هنا مُجدّدًا. أكمِلي حياتكِ مع زوجكِ، على الأقلّ هو مُتعافٍ.

 

لكنّني صرختُ به:

 

ـ أنتَ مَن أحِبّ وليس هو!

 

ـ كنتِ تُحبّيني في ما مضى لكن الآن...

 

ـ هل الحبّ الحقيقيّ يقفُ عند ملامِحٍ أو جسدٍ أو عافيةٍ؟ إنّ الحبّ لا يرى بل يشعُر. سأعودُ إن شئتَ أم لا! أنا لَم أعُد تلك المُراهقة الخجولة التي تفتقدُ الثقة بالنفس، بل صرتُ امرأة قويّة! وذات قوّة كافية لِكلَينا، وأنا مُتأكِّدة مِن ذلك.

 

ـ لكنّكِ مُتزوِّجة.

 

ـ دَع الأمر لي، فزوجي وأمّه استفادا منّي بما فيه الكفاية وهما لا يُحبّاني. سأعودُ، ولن أرحَل بعد ذلك.

 

حاوَلَ زوجي المُمانعة عند طلبي الطلاق ووصَلَ الأمر به لتهديدي بالقتل، لكنّني لَم أخَف منه بل جمَعتُ أمتعَتي ورحتُ أسكنُ مع إحدى عاملات المصنَع التي صارَت صديقتي. ثمّ اتّصلَتُ بحماتي وقلتُ لها:

 

- كنتِ وابنكِ تعرفان منذ البدء أنّ خالتي أرغمَتني على الزواج، وبالرغم مِن ذلك جئتُما بفتاة مُرغمة، واستغلَّيتُماها للأعمال المنزليّة والواجبات الزوجيّة. لَم يُحبُّني أيّ منكما ولَم تُحاوِلا حتّى حَملي على الشعور بالراحة أو الطمأنينة، بل كنتُ كالغريبة وسطكما إلى حين علِمتُما أنّه هو العاقِر وليس أنا. حان الوقت لأعيشَ بسعادة بعد أن تربّيتُ مِن دون أمّ أو أب بل مع خالة قاسية ومليئة بالعقَد النفسيّة. وبعد أن وجدتُ الحبّ الحقيقيّ لن يقِفَ أحدٌ في طريقي! إقنَعي ابنكِ بتطليقي وإلا استعمَلتُ أساليب ستسبّبُ لكما الاحراج بين الناس!

 

نجحَت مُحاولتي والحمد لله، وحصَلتُ على طلاقي. فأسرعتُ بزفّ الخبَر لِسامِر وأهله، وانتظَرنا بِفارغ الصبر أن نتزوّج.

أنا اليوم زوجة سعيدة وأمّ لولدَين رائعَين. وهذه الأيّام السعيدة أنسَتني كلّ العذاب الذي مرَّيتُ به، فلا يجِب أن ييأس المرء، لأنّنا لا نعلَم ما بانتظارنا. المهمّ هو أن نُبقي قلبنا نقيًّا وسيجدُنا الحبّ بنفسه.

ما حصَل لِرهَف خالتي؟ فور عِلمها بزواجي مِن سامر، حاولَت نشر أقاويل عنّي مفادُها أنّ زوجي تركَني بسبب قلّة أخلاقي. إلا أنّ ما مِن أحَد صدَّقَها، فاستسلمَت أخيرًا. بعد سنوات قليلة، وصلَني أنّها أُصيبَت بِمرَض عُضال لا يرحَم. لَم أشأ تركَها وحيدة لِذا صِرتُ أبعَثُ لها الطعام بواسطة جارةٍ لها، إلى أن ماتَت. وبالطبع لَم تصِلني أيّة كلمة شكر مِن جانبها ولَم يُدهشني الأمر كثيرًا. ففي آخِر المطاف، الناس لا يتغيّرون!