حب باهظ الثمن

 ترَكَ لي زوجي قَبل مماته ما يكفي لأعيشَ بكرامة حتّى آخِر أيّامي ولا أضطرّ لِمَدّ يَدي لأولادي. فهو أدرَكَ أنّ أيّامه معدودة بعد أن تفشّى المرَض في جسمه، وعُدنا إلى البيت ليموتَ على سريره وبين أحبّائه. ولن أشكره كفاية على ما فعلَه مِن أجلي بعد أن قضَينا ثلاثين سنة سويًّا في زواج هادئ وجميل. لكنّني لَم أكن، للأسف، على قدر تلك الهديّة الجميلة، إذ أنّني بدَّدتُ مُعظم المال باسم الحبّ. وإليكم قصّتي:

إمتلكَ الحزن قلبي لدى خسارتي شريك حياتي، ولبستُ الأسوَد طيلة سنتَين بكيتُ خلالها كلّ دموعي. فرحتي الوحيدة كانت هي تزويج آخِر إبنة لدَيّ وتمنَّيتُ لو أنّ أباها حضرَ زفافها. بعد ذلك، شعرتُ بفراغ تام، إذ بتُّ لوحدي في بيت شبيه ببيت الأشباح. صحيح أنّ بناتي كنّ تزُرنني باستمرار، لكنّ الليالي كانت طويلة للغاية بالنسبة لي. عرضَت إحداهنّ عليّ العَيش معها إلا أنّني رفضتُ، فالبيت الزوجيّ له قدسيّته وأسراره ولا مكان لي فيه.


بعد فترة، وجدتُ تسلية جديدة وهي الانترنت، إذ بدأتُ ألعَب فيه ألعاب الورق المُثيرة التي تتضمَّن تحدّيات مع باقي اللاعبين. وهكذا تعرّفتُ إلى جمال الذي كان دائمًا، ومِن وراء شاشته، يتحدّاني ويغلبُني في مُعظم الأحيان. وفي إحدى المرّات، بعَثَ لي رسالة على الخاص يعتذرُ منّي على ربحه المتواصل، لكنّني لَم أكن غاضبة على الاطلاق بل أعي أنّها مُجرّد لعبة. تبادلنا بعض الأسطر وحسب، لكنّني تفاجأتُ بجمال يُحدّثُني بعد يومَين ليسأل عنّي وكلّ يوم، بعد أن أخبرتُه أنّني أرملة ووحيدة. هو الآخَر كان أرملاً ووحيدًا، فكان لدَينا الكثير مِن الأمور المُشتركة. وسرعان ما صارَ ذلك الرجُل سلوَتي ورفيقي. فلقد تعلّقتُ به لكثرة إهتمامه، فكان الأمر وكأنّني كنتُ شغله الشاغل الوحيد، إذ كنّا نقضي ساعات طويلة عبر الهاتف نهارًا وليلاً. بقيَ أن نلتقي لنتأكّد تمامًا مِن حبّنا للآخَر فأعطاني جمال موعدًا في أحَد المقاهي. وطوال كلّ تلك المدّة، أيّ منذ تعرّفي به، لَم أقُل لأحَد شيئًا على الاطلاق، ربّما لأنّني خجلتُ بأن تكون لي حياة عاطفيّة بعد موت زوجي.

تبيّنَ أنّ جمال، خلافًا لصوَره على الانترنِت، كان أصغَر مِمّا يبدو، أيّ أصغَر منّي سنًّا. للحقيقة لَم أسأله عن سنّه أثناء تبادلنا الأحاديث الهاتفيّة لأنّني استنتجتُ أنّه في مثل عمري. أزعجَني الموضوع قليلاً لكنّني نسيتُه بسرعة لكثرة جاذبيّة ذلك الرجُل الوسيم. جلستُنا دامَت ساعتَين على الأقلّ وحين افترقنا كنتُ واقعة تمامًا في حبّه. تمنَّيتُ أن يتّصلَ بي في المساء لأفهَم إن كان هو لا يزالُ يُريدُني كما قَبل المُقابلة. وكَم كنتُ سعيدة عندما قرأتُ هذه الكلمات: "أُريدُكِ أكثر مِن قَبل يا حبيبتي، ولن أستطيع تصوّر حياتي مِن دونكِ بعد الآن". نمتُ سعيدة في تلك الليلة وحلِمتُ بفارسي الوسيم وبليلة زفافنا المُرتقَب.

إلا أنّ مشروع زواجنا كان لا يزال بعيد الأمّد، فكان جمال قد استقبَلَ في داره شقيقته الصُغرى المُصابة بإعاقة جسديّة وعقليّة، بعدما قرّرَت أخته الكُبرى التوقّف عن الاهتمام بها لكثرة تعبها، بعد سنوات طويلة مِن حَملها وإعطائها الحمّام وتحضير الأكل الخاص لها، وتأثّر حياتها الزوجيّة والعائليّة بهذا النمط مِن الحياة. واحتارَ حبيبي بأمره، فكيف له أن يأتي بعروسه إلى بيته والمسكينة أخته تعيشُ معه؟ أعربتُ له عن إستعدادي بالاهتمام بها، إلا أنّه قرَّرَ أنّ الحلّ الأنسَب هو إرسال أخته إلى مؤسّسة خاصّة تُعنى بالحالات المُماثِلة. لكن مِن أين سيأتي بالمال لذلك في حين هو يعيشُ مِن راتبه كموظّف عاديّ؟ فتلك الأماكن، إن كانت جيّدة ومُتخصّصِة، تطلبُ مبالغًا كبيرة شهريًّا فلدَيها أطبّاء وأخصّائيّين وطاقم مُحترِف. لمَستُ الحيرة في صوته حين كنّا نتكلّم عبر الهاتف وأظنّه أنّه بكى عندما قال لي:

 

ـ ربّما ليس مكتوبًا لي أن أذوقَ طعم السعادة... فزوجتي توفَّت وها أنا على وشك أن أخسرَكِ.

 

ـ لن تخسرَني يا حبيبي.

 

ـ بلى... هيّا، إذهبي للبحث عن آخَر، فالذنب ليس ذنبكِ... مِن الأفضل أن أترككِ وشأنكِ. أتمنّى لكِ السعادة.

 

ـ ما هذا الكلام؟!؟ لن أذهب إلى أيّ مكان! لدَيّ المال مِن أجل أختكَ، فلا تُفكِّر بشيء بعد الآن. سأهتمّ بالأمر.

 

ـ تدفعين لأختي؟!؟ وهل انا رجُل ناقص؟!؟

 

ـ ربّما تُفضِّلُ أن نفترِق؟

 

ـ بالطبع لا. لكن على شرط: أن أُعيدُ لكِ مالكِ... فهناكَ قطعة أرض كبيرة ورثتُها وأخواتَيّ مِن أهلنا. سنبيعُها ويتغيّر كلّ شيء.

 

أدخَلَ جمال اخته المؤسّسة وبدأ يبعثُ لي صوَرًا لها هناك، وأنا مِن جهتي دفعتُ الأقساط الشهريّة وكنتُ فخورة بنفسي لأنّ حبيبي أدركَ أنّه سيتزوّج مِن امرأة عظيمة. أسرَعَ جمال بالتفتيش عن شارٍ لقطعة الأرض لكنّ سحَر، اخته الكبرة، وقفَت في وجهه رافضة البيع بعد أن تشاورَت مع زوجها حول الموضوع. لَم يؤثِّر ذلك على علاقتنا ونيّتي بالمُساعدة، فكنتُ واثقة مِن أنّ يومًا سيأتي واستعيدُ مالي.

إلا أنّ حبيبي خَسِرَ وظيفته فجأة بعد أن اضطرَّت الشركة إلى التخفيف مِن مُستخدميها، وصِرتُ أصرفُ عليه أيضًا شهريًّا. لكنّه لَم يعُد يأتي على ذكر زواجنا وعندما سألتُه عن الأمر، قال:

 

ـ وكيف تُريديني أن أتزوّجكِ فيما تصرفين عليّ وعلى أختي؟ كرامتي لا تسمحَ لي بأن أُسمّى زوجًا. سنؤجّلُ الأمر إلى حين أجدُ عمَلاً جيّدًا وأستطيع الاعتناء بكِ يا ملكتي.

 

ـ لدَيّ المال الكافي لكلَينا أو بالأحرى لثلاثتنا ولن أدَع شيئًا يقِفُ بيننا.

 

إلا أنّ جمال أصرَّ على أن نصبُر، فرضَختُ للأمر الواقِع.

لَم أكن قد رأيتُ أيًّا مِن اختَيه وعلِمتُ السبب: فهو كان يخجَل مِن اخته المعوّقة ويخافُ مِن أخته الكبرى لأنّها غير لطيفة أو لائقة وقد تقولُ لي ما يُزعِلُني، لكنّني أرَدتُ أن أتعرَّف على سحَر. قبِلَ جمال لكنّه طلَبَ منّي ألا أُثيرُ أمامها موضوع اخته المسكينة على الاطلاق.

إلتقَينا بالتي تُدعى سحَر وجلستُ مع حبيبي قبالتها. هي لَم تكن ممنونة أبدًا بذلك اللقاء وكان الأمر واضحًا مِن ملامحها المُتشنّجة ونظراتها المُستاءة لي ولأخيها. للحقيقة هي لَم تقُل الكثير فاضطرِرتُ للتحدّث مُعظم الوقت عن علاقتي بجمال ونيّتنا في الزواج ونيّتي أنا في خلق مناخ جيّد بيني وبينها لأنّها ستُصبح نسيبتي. ثمّ هي قالَت لي باشمئزاز:

 

ـ أنتِ أكبَر منه سنًّا، أليس كذلك، ولدَيكِ حتمًا بعض المال؟ هكذا يُحبّ حمال نساءه. أجل، فأنتِ لستِ أوّل سيّدة يُلقي شباكه عليها. لا تتزوّجيه يا عزيزتي، فلن تحصل لكِ سوى المتاعِب، صدّقيني، فهو أخي الصغير وأعرفُه جيّدًا. وإن لَم تأخذي بنصيحتي، فاللوم سيقَع عليكِ. وداعًا.

 

رحلَت سحَر قبَل أن يتسنّى لجمال او لي الردّ لكنّني نظرتُ إلى حبيبي سائلة عمّا تحدّثَت أخته، وهو أجابَني:

 

ـ إسمعي... سحَر أختي وأحبّها لكنّها ليست مُتّزِنة نفسيًّا. لطالما هي حاربَتني لأنّني حظيتُ بالدلَع كلّه بعد ولادتي خاصّة أنّني ولَد. ومنذ ذلك الوقت وهي تُحاول تصغيري أمام الناس بما فيهم والدَيّ رحمهما الله. يمكنُكِ معرفة مدى قلّة شفقتها مِن تخلّيها عن اختنا الصغيرة. على كلّ الأحوال، أنا لَم أطلُب منكِ دفع أقساط المؤسّسة الخاصّة أو الصرف عليّ بل أنتِ قدّمتِ ذلك بنفسكِ.

 

ـ هذا صحيح.

 

ـ ولأُثبِت لكِ أنّني لا أسعى وراء مالكِ، فسأفسخُ علاقتنا على الفور.

 

ـ لا! لا تفعَل! أرجوكَ!

 

ـ بلى، فأنتِ بأفضَل حال مِن دوني. إذهبي وجِدي لنفسكِ رجُلاً مُقتدِرًا بإمكانه الاعتناء بكِ.

 

ـ أحبُّكَ ولا أُريدُ سواك! لن أصدِّقَ أختكَ بل سأصدّقُكَ أنتَ، فأنتَ مَن يُعطيني السعادة ويحملُني على النظَر إلى الحياة بتفاؤل.

 

ـ هل أنتِ مُتأكّدة مِن خياركِ؟

 

ـ أجل.

 

ـ إذًا لن أقبَل منكِ أيّ شَكّ ومُساءلة.

 

ـ أعِدُكَ بذلك.

 

عدتُ إلى البيت وقلبي فرِحٌ لأنّني تأكّدتُ مِن حبّ جمال لي. فلتذهَب سحَر إلى الجحيم وتأخُذ معها كرهها وبُغضها لأخيها ولي وللعالَم بأسره!

وفي تلك الفترة، كانت ابنتي الصغرى قد بدأَت تُلاحظُ عليّ غياباتي عن البيت وخاصّة في المساء وطباعي الفرِحة، ولَم تقتنِع بالحجج العديدة التي قدّمتُها لها. لِذا سألَتني يومًا إن كان هناك أحدٌ في حياتي وقرّرتُ أخيرًا أن أُشاركها فرحَتي. لكنّ الأمر لَم يُعجِبها كثيرًا فقالَت أمورًا مُجرِّحة أودَت إلى شجار بيننا. وقلتُ لها قبل أن نُنهي حديثنا: "هذه حياتي وأنا سيّدة مصيري ولا دخلَ لكِ فيها. إن لَن يُعجبكِ الأمر، فلا تتّصلي بي بعد الآن". كنتُ بذلك قد عزَلتُ نفسي عن ذويّ وفقدتُ الدعم الأخير الذي أملكُه. بقيتُ وحيدة أمام ما كان يُحاكُ لي.


شعَرتُ أنّ العالَم بأسره يقِفُ بيني وبين جمال. فإضافة إلى موقف أخته سحَر منّي، أخبَرت إبنتي الصغرى أخواتها عن قصّة غرامي، وهنّ اتّصلنَ بي لتحذيري وحتّى لتوبيخي وكأنّني أنا الإبنة وليس الأم. ملجئي الوحيد باتَ حبيبي الذي أحاطَني بحنانه وحبّه، وطمأنَني بأنّه سيكون إلى جانبي مهما حصَل ومدى الحياة. كَم أنّ الحبّ جميل! فالجدير بالذكر أنّني لَم أشعُر بتلك الأحاسيس مع المرحوم زوجي بالرغم مِن حبّه لي وحبّي له، فهو كان إنسانًا كتومًا يكبتُ أحاسيسه ويُفضّلُ الفعل بدلاً مِن الكلام والتعبير.

أعرَبتُ بعد فترة عن نيّتي بزيارة أخته الصغرى الموجودة في مؤسّسة خاصّة، لكنّ جمال رفضَ بهدوء لأنّ الأمر سيُسبّبُ لي الأسى، وهو خافَ أن أتحمَّس لِجَلبها إلى بيتنا الزوجيّ المُستقبليّ وأندمُ لاحقًا لكثرة إحتياجاتها اليوميّة. هو كان يعرفُ كَم أنّ قلبي رقيق وكَم أنّني أندفعُ للمُساعدة. وجدتُ حبيبي حكيمًا في قراره، ففي قرارة نفسي خفتُ حقًّا مِن عبء مسؤوليّة الاهتمام بإنسانة ذات إحتياجات خاصّة، لِعدَم معرفتي بكيفيّة التعامل مع هكذا حالة. وهكذا بقيتُ أدفعُ مصاريف المؤسّسة مِن كلّ قلبي.

وجَدَ جمال أخيرًا عمَلاً، لكنّني لَم أقطَع المصروف عنه، فهو كان رجُلاً أبيًّا ولدَيه حاجات يوميّة، خاصّة أنّه بقيَ يمنعُني مِن دفع فاتورة المطاعم والمقاهي التي كنّا نقصدُها. إتّفقتُ معه أنّ لا حاجة لنا بالعَيش في بيته الصغير بل عليه الانتقال إلى منزلي الذي كان أوسَع وأجمَل. فيوم زرتُه في مسكنه، فاجأني حجمه وقلّة ترتيبه، وفسَّرَ لي الأمر بأنّ كَونه وزوجته لَم يُنجبا، فلَم يكونا بحاجة إلى مكان واسِع. أما بالنسبة للديكور البسيط جدًّا، فهو شرَحَ لي أنّ المسكينة زوجته عانَت من المرَض لفترة طويلة، ولَم تكن قادرة لا جسديًّا ونفسيًّا على الاهتمام بالبيت. وتفهّمتُ الوضع طبعًا.

تفاجأتُ يومًا بسحَر أخت جمال تتصلُ بي، ولَم أعلَم مِن أين جاءَت برقم هاتفي. رحّبتُ بها بجفاف، فهي كانت قاسيّة معي في لقائنا الأخير، لكنّها اعتذرَت منّي بحرارة طالبة منّي اللقاء مُجدّدًا لنتعرّف إلى بعضنا أكثر، بعدما استوَعبَت أنّني سأصبحُ زوجة أخيها قريبًا. إلا أنّها طلبَت منّي عدَم إطلاع جمال على اتّصالها بي أو مشروع تلاقينا. وأنا وعَدتُها بأنّني لن أقولَ شيئًا.

زارَتني سحَر في بيتي الذي أعجبَها، وقالَت عند دخولها وهي تهزُّ برأسها:

 

ـ تغيير نوعيّ بالنسبة لجمال... فالمكان يتّسع لعائلة كبيرة. يا له مِن مُحتال كبير!

 

ـ لماذا تقولين ذلك؟ صحيح أنّ أحوالي أفضل مِن أحواله، إلا أنّ حبّه لي هو حقيقيّ وصافٍ وليست له دوافِع في ما يخصّ مالي.

 

ـ أنتِ إمرأة ساذجة حقًّا. وهل أقنعَكِ أخي باستقبال أختنا المعوّقة أيضًا؟

 

ـ لا بل وضعناها في مؤسّسة خاصّة بعدما تخلَّيتِ عنها وأنا أدفعُ مصاريفها.

 

ـ هاهاها! أسحبُ ما قلتُه عن كونكِ ساذجة لأنّكِ بالفعل غبيّة! أختُنا تعيشُ مع جمال منذ البداية وهي لَم تذهب إلى أيّ مكان!

 

ـ هذا ليس صحيحًا، فلقد زرتُ مسكن جمال وكان فارغًا.

 

ـ أنا مُتأكّدة مِن أنّه وضَعَ أختنا عند جيراننا كَي لا ترَيها وتستمرّي بالدفع. يا له مِن مُحتال مُحنَّك!

 

ـ لماذا تفضحين أخاكِ هكذا أو بالأحرى تُحاولين فضحه؟ ألا تكنّين له أيّة محبّة؟

 

ـ للحقيقة لا، فهو لطالما كان ماكرًا، وحصَلَ أنّه احتالَ على كلّ مَن حوله وفعَلَ الشيء نفسه مع المرحومة زوجته، فعاشَ معها في تلك الشقّة الصغيرة بعدما بدَّدَ مالها.

 

ـ سيُعيدُ جمال لي كلّ مالي ريثما تبيعون الأرض التي ورثتموها مِن أهلكم.

 

ـ حبيبتي... ليس هناك مِن قطعة أرض على الأطلاق، ولَم يترُك أهلنا شيئًا بعد مماتهما، فهما كانا فقيرَين وبقيا فقيرَين حتى آخِر أيّامهما.

 

ـ هو يقولُ إنّكِ كاذبة وتغارين منه منذ صغركما.

 

ـ عليكِ تصديق أحَدنا يا شاطرة... لكنّكِ تبدين لي حمقاء لأقصى درجة وهذا لا يُنذرُ بالخير أبدًا. لقد نبّهتُكِ منه لإراحة ضميري لكنّ الآن صارَت الكرة في ملعبكِ. وداعًا.

 

كلام سحَر حيّرَني حقًّا، فمَن يقولُ الحقيقة ومَن يكذب؟ وجَبَ عليّ معرفة ما يجري، فلَم يتبقّ الكثير مِن الذي تركَه لي المرحوم زوجي. إحتَرتُ بأمري ولَم يكن هناك مَن أستشيره وأسأله عمّا عليّ فعله. مهلاً... لماذا لا أتقصّى عن جمال لدى مُحيطه وجيرانه؟ ألَم تقُل سحَر إنّه وضَعَ أخته الصغرى عند جيرانه بينما أزورُه؟ وكانت هناك أيضاً تلك المؤسّسة الخاصّة التي وضعنا المسكينة فيها، ما اسمها؟ يا إلهي... أنا لَم أسأل عن الاسم مع أنّني مَن يدفع المصاريف. هل يُعقَل أن أكون بالفعل ساذجة وغبيّة؟!؟

لَم أنَم في تلك الليلة، فماذا لو علِمَ جمال بأنّني اتحرّى عنه؟ هل ستؤثّر قلَة ثقتي فيه على مسار علاقتنا ومصيرها؟ فلو كنتُ مكانه لاستأتُ كثيرًا وأخذتُ قرارًا حاسمًا حيال الشريك الآخَر. ماذا أفعَل يا ربّي؟!؟

وفي الصباح الباكِر رحتُ إلى جوار مسكَن جمال أُراقبُ حركة الحَيّ، مِن داخل سيّارتي التي ركنتُها عند زاوية أحَد الأزقّة. هناك رأيتُ الحَيّ يستفيقُ وسكّانه، والدكاكين ترفعُ واجهاتها، ولمَحتُ حبيبي وهو يغادرُ إلى عمَله الجديد. عندها ترجّلتُ وصعدتُ المبنى وقرعتُ باب جيران جمال. فتحَت لي سيّدة لا تزال في لباس النوم فقلتُ لها:

 

ـ أنا آسفة للإزعاج سيّدتي، لكنّني قرعتُ باب جاركِ جمال لأُسلِّم له مُستندًا هامًّا ولَم يفتَح لي أحد.

 

ـ قد يكون ذهَبَ إلى عمَله.

 

ـ ألا يوجَد سواه في المنزل؟ فبإمكاني إعطاء المُستند لأحد أفراد عائلته فلا أستطيع الانتظار مطوّلاً، الموضوع بغاية الأهمّيّة. أنا أعمَل لدى محام كبير والقضيّة مُستعجلة.

 

ـ محام؟ قضيّة؟ ما الذي فعلَه جمال هذه المرّة؟ يا لَيته يصطلِح ويتوقّف عن أعماله المشبوهة!

 

ـ لَم تُجيبيني سيّدتي، هل مِن أحَد يعيشُ معه، فوقتي ضيّق للغاية.

 

ـ لا أحد... سوى أخته المعوّقة. المسكينة، هو يتركُها لوحدها طوال اليوم وأحيانًا في المساء. قولي لي، ألَم أرَكِ مِن قَبل، فوجهُكِ مألوف.

 

ـ أبدًا، هذه أوّل مرّة آتي إلى هناك. أشكرُكِ سيّدتي، سأبعثُ المُستند مع زميل لي في المساء.

 

أسرعتُ بالخروج مِن المبنى والصعود في سيّارتي، لألتقِط أنفاسي بعد أن أستوعَبتُ أنّ سحَر كانت مُحقّة في تحذيري مِن أخيها. فهو كذِبَ عليّ في ما يخصّ أخته الصغرى ويُبقي المال لنفسه. النصّاب! حتّى جيرانه يعرفون عن سيرته البشعة! يا إلهي، كيف أنّ وحدتي وعطَشي لحنان وحبّ رجُل دفعاني إلى أحضان غشّاش مُحترِف! كيف سأستعيدُ مالي أو بالأحرى مال زوجي المسكين؟ فليس لدَيّ أيّ إثبات على عمليّة النصب... أو بلى! فقد كانت هناك مُحادثاتنا على الوتساب حين تبادَلنا الكلام المُطوّل عن أخته المُعوّقة وعن المؤسّسة وعن الدفعات التي قمتُ بها بهذا الشأن. لكن هل أنّ ذلك كافٍ لإثبات عمليّة النصب؟ ضحِكتُ للحظة بعدما تمنّيتُ أنّ كذبتي للجارة كانت حقيقيّة وكنتُ بالفعل أعمَل لدى مُحام! لِذا رحتُ أستشيرُ أحدَهم بعدما سألتُ مِن حَولي، وحين أطلَعتُ المحامي عمّا حصَلَ لي، قال إنّ قضيّتي شائكة لكنّها ليست مُستحيلة. وهو نصحَني بأن أُحاوِل إسترجاع مالي أوّلاً مِن جمال طوعًا لأتفادى مصاريفه ومصاريف المحكمة. وهذا ما فعلتُه، فعند أوّل فرصة خابرتُ جمال وقلتُ له:

 

ـ إسمَع، لقد إكتشفتُ كلّ شيء، أجل، أعلمُ أنّ أختكَ الصغرى في بيتكَ وليس في المؤسّسة، وأن ليس هناك مِن قطعة أرض تبيعها وتُعيد لي مالي. أنا لا أدري إن كنتَ بالفعل قد خسِرتَ عمَلكَ القديم ولكنّ ذلك سهل التحقّق منه. سأُقاضيكَ أيّها الماكِر، ولقد استشرتُ مُحاميًّا بارعًا أكَّدَ لي أنّ أحاديثنا عبر الوتساب تُعَدّ دليلاً شرعيًّا، وبإمكاني سجنكَ لمدّة طويلة. إنّكَ أخذتَ المال الذي كان سيُؤمِّن لي حياة كريمة، وتلاعَبتَ بعوطفي ولن أُسامُحكَ على ذلك. ماذا تُريدُ أن نفعل؟ المحكمة والسجن أم أنّكَ ستعيدُ لي ما أخذتَه منّي؟

 

لم يُحاوِل جمال الدفاع عن نفسه بعدما أدركَ أنّني على عِلم بكلّ شيء، لكنّه طلَب مُهلة لإعادة المال. في تلك الأثناء بقيتُ على اتّصال مع المُحامي، وحضّرنا نفسنا للمواجهة القضائيّة في حال أخَلَّ جمال بوعده. طالَ الانتظار وكنتُ على وشَك رفع قضيّة ضدّه، عندما إتًصَلَ بي حبيبي السابق وحدَّدَ لي موعدًا في مقهى ليُعطيني قسمًا مِن المبلغ. بالطبع لَم أذهَب لوحدي إلى الموعد بل مع أحَد موظّفي مكتب المحامي. لَم أنظُر إلى جمال بل أخذتُ المال منه بسرعة وعدتُ ورفيقي أدراجنا. بقيَ جمال يُسدّدُ لي المال حتى آخِر قرش على دفعات عديدة. لَم أسمَع منه أيّة كلمة إعتذار أو تبرير، فهو على ما يبدو لَم يكن آسفًا على ما فعلَه بي بل فقط على اكتشافي الحقيقة. كلّ ما قالَه في إحدى المرّات هو أنّه وضَعَ كلّ مالي جانبًا ليتزوّج به غيري، النَذل!

إتّصلتُ بسحَر لأشكُرها على مُساعدتها لي، واخبرتُها بما فعلتُه بأخيها وهي ضحِكَت عاليًا لكثرة فرَحها.

بقيَ عليّ مصالحة بناتي، وقد حصَلَ الأمر بسرعة وسلاسة لأنّ حبًّا كبيرًا يربطُ بيننا، وعُدنا كالسابق عائلة مُتّحِدة. جلبَت لي إبنتي الصغرى هرّة لطيفة لتسلّيني ولا أشعرُ بالوحدة التامّة، وصرتُ أذهب لبناتي بالمُداورة وأقضي عندهنّ شهرًا كاملاً أُلاعِبُ أولادهم وأهتمُّ بحفيدتي الجديدة. إستمدَّيتُ الفرَح مِن عائلتي وكان ذلك كافيًا، فليس مِن المُهمّ أن نحصل على حبّ رجُل بالتحديد لأنّ للحبّ مصادِر عديدة!